الإرادة الحرة بمنظور فلسفي إسلامي
لطالما أرقني سؤال وأشغل بالي، هل الإنسان مسير أم مخير في الدنيا والآخرة،
هل نحن حقاً نمتلك إرادة القرار في جميع أمور حياتنا في الدنيا، وحتى في الآخرة…
بحثت مطولاً عن إجابة لهذا السؤال، أردت إجابةً ترضي فضولي، تناسب فيزيائية الأرض وواقعيتها البحتة، وحتى روحيه الإسلام ومنطقه الفضيل.
وجدت أن الدنيا مادية بحتة والإنسان فيها مخير بكافة الظروف والإحتمالات، وإن بعض المصاعب والنوائب التي قد يقع بها الإنسان ما هي إلا انعكاسات لقراراته وقرارات أسلافه ساءت أم حسُنت أصاب فيها أم أخطأ
وهنا يخلط الأغلبية بين غيبية القدر وبين علم الله بالغيب، فعلم الله علم إخبار وقدرة وقوة، لا علم إجبار وتحديد فعلمه تعالى يعني علمه أيضاً بالخيارات الأخرى التي قد تتخذها وبنتائجها حتى…
لهذا فإن الإنسان في هذه الدنيا مخير تماماً وهو ليس مسير أو مجبر بل له حرية الإرادة والقرار في كل شيء، وعلم الله تعالى في الغيب علم إخبار لا علم إجبار وقدرة إدراك للغيب لا تقتضي التسيير أو والتحديد لهذه الخيارات ولن تكون من المفروضات على الإنسان
لقول الرسول ﷺ “لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع” وهذا دليل منه ﷺ على تعدد الإختيارات وقدرتنا على الإختيار بينها…
فالاطلاع يعني أولاً مشاهدة مجريات اختياراتنا المستقبلية واختيار الواقع الذي قصده ﷺ هو دليل على حرية تعدد الخيارات والإختيارات… لكن الإنسان، سيختار الواقع الذي عاشه أو سيعيشه بالفعل.
أغلب أمورنا الدنيوية تفرض علينا خيارات غير نقية لا تلازم الفضيلة بشكل تام إن صح التعبير، ولا يجوز علينا أن نرمي بها القضاء والقدر جزافاً للتملص من لوم وتأنيب الضمير لسوء القرار المُتخذ وهنا يأتي خيار التوافق بين الدنيا والآخرة…
عليك بقوة الإرادة الفاضلة النقية لا بقوة الشهوة الزائلة الزائفة كن متيقناً من قوة إرادتك وحريتها الكاملة كن متأكداً من أبدية النتجية قبل أن تتسرع لنيل سعادة لحظية مؤقتة، فقط ابحث عن الحقيقة في كل شيء حتماً ستجد فيها بعض الخير و الفضيلة.
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً
واعمل لآخرتك كأنك ميت غداً
لطالما اعتبرت هذا الحديث الشريف أو القاعدة الحياتية من أسمى القواعد التي اعتمد فيها على قراراتي واختياراتي لقد جمعت العديد من المبادئ والقواعد في محتواها وهي متناقضة في الظاهر لكنها متقنة و مقعنه في الفحوى، لا أظن أن هنالك شيئاً أو قاعدة ما احتوت على الدقة التي احتوتها هذه القاعدة، فقد جمعت زوال الدنيا مع أبدية الآخرة. جعلتك تنظر لهما نظرة قوة لكل منها على حدة كما جمعت بينهما بطريقة رائعة
وهنا علينا التوفيق بين هذه المعضلة الظاهر فيها التناقض والتضارب، وبين المراد من غايتها ويجب علينا الفهم والإدراك الصحيح لمعناها السامي ومداركها العميقة، فعليك العمل في هذه الدنيا الفيزيائية البحتة عليك السعي والجهد والعمل لكل تنال ما تريد، ولكن ضمن أخلاقيات وضوابط تضمن لك الآخرة التي إن أنت وضعتها نصب عينيك… وأيقنت أنك ميتٌ غداً في كل عمل تعمله… كم ستتغير رؤيتك لكل عمل كم شيئاً ستهمل وكم شيئاً ستسعى راكضاً تجاهه
كم من الدقة والكمال والصدق ستتحرى في كل عمل إن أنت أتبعت فحوى هذه القاعدة في أمور حياتك كلها…
وعليها يكون التوفيق بين مادية الدنيا وتسامي الروح فيها وبين متطلبات النفس وتعلقها المادي ورغباتها…
التوفيق والعمل يكون بين شهوات الدنيا وتعلقها الديني بالآخرة والفضيلة البحتة في الأوامر الربانية التي أمرنا بها عز وجل…
التسليم للقضاء والقدر أمر محتوم وواقع مغايرٌ لهذه المسألة…
فما يقع بمسمى القضاء والقدر يجب أن يكون أولاً خارج إرادة الفرد وخياراته كالكوارث الطبيعة التي هي من سنن الكون وطبيعة الأرض الفيزيائية.
ومن الأمثلة الواضحة التي يجتمع بها القضاء والقدر مع خياراتنا التي تنهي بنا بنتيجة محتومة على الغالب والتي قد يعزيها اغلبنا للقدر وهي:
كـ سقوط طائراتك تعد من القضاء والقدر بالنسبة لك ولباقي الركاب لا للطيارين والعاملين والقائمين على إدارتها وتسييرها فالخطأ الصغير الذي وقع به الطاقم اقتضى هذا القدر على باقي الركاب سواءً كان بسوء اختيار أو فعل أو حتى بسبب تراخٍ أو إهمال فالعاقبة واحدةٌ للجميع هنا إما حسابها فمختلف…
بل في الواقع قرارك الذي تراخيت أو تشجعت عند اتخاذه على حد سواء أدى بك إلى تلك النتيجة…
فعندما اتخذت قرار السفر بالطائرة مدركاً عواقب الطيران النادرة ومستغلاً لميزاته وسرعته وراحته…
فقد قادتك قراراتك وإختياراتك لتلك النتيجة …
”لكل شيءٍ في الطبيعة دَوره في حبكة «الكُل»، حتى النائم وحتى المُخرب، حتى مُخلَّفات الطبيعة وعوارضها الضارَّة هي نواتجُ بعديةٌ للنبيل والجميل…
لا تُزايِد على المُدرَكات بما ليس منها. الأذى لا يأتيك إلَّا من ذاتك الأشياء بريئةٌ وخاملةٌ ومحايدة. ليست الأشياء ما يَكرُبك بل فكرتك عنها.“
من كتاب التأملات – لـ ماركوس أوريليوس
والدنيا كما نعلم جميعاً مادية بحتة لا تراعي الفضيلة ولا الرذيلة ولا تعبأ بمؤمن أو بكافر إن ماهيتها مادية بحتة وفيزيائية خالصة مبنية على العديد من القرارات والخطط الدقيقة التي تسير بدقة متناهية في دائرة حتمية، فلكل فعل رد فعل توازيه بالقوة وتعاكسه بالإتجاه
الدنيا نتيجة لقراراتك
والآخرة نتيجة لنواياك
أرى أن هذا هو مختصر العدل الإلهي، ومنتهى الجدال في حرية خياراتنا وفي سوء تدابيرنا وحتى الظلم والمصائب التي تحل بنا عندما نتفكر فيها بعمق ونجردها تماماً إلى أساسها وبداياتها سنجد أن لنا قراراً أدى بنا إلى تلك العاقبة.